الصحافي المغربي: حارس الحقيقة في مهب الريع والتهميش.

أنس الشعرة: باحث في الإعلام

ما عاد الصحافي في المغرب حاملًا لنبالة الكلمة، ولا هو بعدُ ذلك المثقف الذي يحفر في مجرى الوقائع ويكشف المستور من العلاقات والقوى، للأسف !!..
لقد تحوّل، في كثير من الحالات، إلى موظف هشّ داخل منظومة اقتصادية مختلّة، تقيّد يده وتضع على فمه قيدًا من حديد، فبين قسوة السوق وجبروت المؤسسة وسلطتها، تضيع استقلاليته، وتُنهك كرامته، ويُخصى ضميره المهني في غرف التحرير قبل أن يصل إلى المطبعة أو شاشة الموقع.
إن الوضعية المادية للصحافي المغربي، تُعبّر بعمق عن اختلال عميق في تصور الدولة والمجتمع لمكانة الصحافة وأدوارها: رواتب هزيلة، غياب للأمان الوظيفي، انعدام شبكات الحماية الاجتماعية، ومؤسسات تشتغل بمنطق الاستغلال لا الاستثمار. يُطلب من الصحافي أن يكون مُلمًّا، حاذقًا، يقظًا، وأن يُراكم الإنتاج تلو الإنتاج… دون أن تُلبّى أبسط شروط الحياة الكريمة.
وليس التدهور المادي مجرد عائق ظرفي، بل هو وسيلة خبيثة لنزع سلاح الصحافي: فمن لا يملك قوت يومه، لن يملك حريته، ومن يعمل تحت التهديد المستمر بفقدان منصبه أو كرامته، لن يجرؤ حتى على المطالبة بأبسط حقوقه.
غير أن الأخطر من البؤس المادي، هو الانهيار الرمزي الذي طال مكانة الصحافي داخل المشهد الاجتماعي. لقد تحوّلت الصحافة، في الوعي الجماعي، من سلطة رابعة إلى ملحق دعائي، ولم يعد الصحافي في كثير من التمثلات، سوى ناقل مروّج، لا ملاحظًا ناقدًا، يتنقّل من ندوة إلى أخرى، يتصيّد التصريحات السطحية، يُلخّص، يُعدّل، يَنشر… دون أن يزعج “توازنات الكبار”.
إن تآكل المكانة الاعتبارية للصحافي ليس إلا نتاجًا طبيعيًا لانهيار شروط إنتاج المعنى، فحين تُفكّك غرف التحرير، ويُمسَخ الخط التحريري في دهاليز الإشهار، وتُوجَّه الموضوعات وفق بوصلة الممول، يغدو الصحافي مجرد “واجهة مهنية” لخطابات لا تمثّله، وأجندات لا يُشارك في صياغتها.
ولا يمكن الحديث عن هذا التدهور دون مواجهة الحقيقة العارية: النموذج الاقتصادي للصحافة المغربية مريض بعلّة التبعية. الصحف – إلا القليل منها – لا تعيش من جمهورها، ولا تستمد قوتها من ولاء قرّائها، بل من كرم المعلنين أو سخاء الدولة، هنا تتحوّل حرية التعبير إلى بند مشروط، والاستقلالية إلى شعار خافت لا يصمد أمام فاتورة كهرباء أو رواتب نهاية الشهر.
نعم …
أصبح الدعم العمومي، وسيلة لإنعاش المهنة، أشبه بجرعة مورفين تطيل عمر الورم دون أن تعالجه، كما صار الإشهار آلية فرز وإقصاء: من يكتب ما يُطلب منه، ينجو ويعيش، ومن يخرج عن السرب، يُحرم من “الكسرة” التي تُبقي جريدته حيّة.
المأزق اليوم لا يخص الصحافة كقطاع فقط، بل هو مأزق في تصور الوظيفة المجتمعية للصحافي، إذ لا يتعلق الأمر بإعادة تمويل المقاولة فقط، بل بإعادة الاعتبار لدور الصحافي كفاعل في البناء الديمقراطي. ينبغي قلب المعادلة: لا تبدأ حرية الصحافة من غرف الأخبار، بل من شروط حياة الصحافي، ولا تصحّ مهنية دون كرامة، ولا يُبنى الاستقلال على أرض رخوة من الخوف والتردد.
ما أحوجنا إلى تصور جديد، يتجاوز منطق السوق والدعم، نحو نموذج قوامه الثقة بين الصحافي وجمهوره، والتزام متبادل بين المؤسسة والعاملين فيها، نحتاج في زماننا إلى إصلاح لا يُعوّل على الحكومة وحدها، بل على يقظة المجتمع المدني، وجرأة النقابة، وشجاعة الصحافيين أنفسهم في رفض التطبيع مع الرداءة.
ليس الصحافي موظفًا في مصنع عناوين، إنه شاهدٌ على عصره، وناقلٌ لصوت المهمشين، وخصمٌ للسلطة حين تنحرف، وصديق لها حين تصدق، وإن كان قدره اليوم أن يعمل في ظروف خانقة، فإن مسؤوليته التاريخية هي ألا يصمت. لأن موت الصحافي لا يحدث حين يُمنَع من الكتابة، بل حين يكتب ما لا يؤمن به.